الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فلما رأى موسى ذلك قال لأهله ما في الآية.ومشى نحوها لما دنا منها رأى النار في شجرة سمر خضراء وهي لا تحرقها، وكلا قرب هو منها بعدت هي منه، وكان ذلك نورًا من نور الله عز وجل ولم يكن نارًا في نفسها لكن ظنه موسى نارًا فناداه الله عز وجل عند ذلك، وسمع موسى عليه السلام النداء من جهة الشجرة وأسمعه الله كلامه والخبر الذي رجاه موسى عليه السلام هو الإعلام بالطريق، وقوله: {بشهاب قبس} شبه النار التي تؤخذ في طرف عود أو غيره بالشهاب ثم خصصه بأنه مما اقتبس، إذ الشهب قد تكون من غير اقتباس، والقبس اسم لقطعة النار تقتبس في عود أو غيره كما القبض اسم ما يقبض ومنه قول أبي زيد: المنسرح: ومنه قول الآخر: وأصل الشهاب الكوكب المنقض في أثر مسترق السمع وكل من يقال له شهاب من المنيرات فعلى التشبيه، قال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب وكلامه معترض، والقبس يحتمل أن يكون اسمًا غير صفة ويحتمل أن يكون صفة، فعلى كونه اسمًا غير صفة أضاف إليه بمعنى بشهاب اقتبسته أو اقتبسه، وعلى كونه صفة يكون ذلك كإضافة الدار إلى الآخرة والصلاة إلى الأولى وغير ذلك، وقرأ الجمهور بإضافة {شهاب} إلى {قبس} وهي قراءة الحسن وأهل المدينة ومكة والشام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {بشهابٍ قبس} بتنوين {شهاب} فهذا على الصفة.ويجوز أن يكون القبس مصدر قبس يقبس كما الجلب مصدر جلب يجلب وقال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة كما تقول دار آجر وسوار ذهب حكاه أبو علي، و{تصطلون} معناه تستدفئون من البرد، والضمير في {جاءها} للنار التي رآها موسى، وقوله: {أن بورك} يحتمل أن تكون {أن} مفسرة، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على تقدير ب {أن بورك}، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير نودي أنه قاله الزجاج، وقوله: {بورك} معناه قدس وضوعف خيره ونمي، والبركة مختصة بالخير، ومن هذا قول أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب. وبارك متعد بغير حرف تقول العرب باركك الله وقوله: {من في النار} اضطرب المتأولون فيه فقال ابن عباس وابن جبير والحسن وغيرهم: أراد عز وجل نفسه وعبر بعضهم في هذا القول عبارات مردودة شنيعة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أراد النور، وقال الحسن وابن عباس: أراد بمن حولها الملائكة وموسى.قال القاضي أبو محمد: فأما قول الحسن وغيره فإنما يتخرج على حذف مضاف بمعنى {بورك مَن} قدرته وسلطانه {في النار} والمعنى في النار على ظنك وما حسبت، وأما القول بأن {من} للنور فهذا على أن يعبر على النور بمن من حيث كان من نور الله ويحتمل أن تكون من الملائكة لأن ذلك النور الذي حسبه موسى نارًا لم يخل من الملائكة، {ومن حولها} يكون لموسى عليه السلام وللملائكة المطيفين به، وقرأ أبي بن كعب {أن بوركت النار}، كذا حكى أبو حاتم وحكى ابن جني أنه قرأ: {تباركت النار ومن حولها} وحكى الداني أبو عمرو أنه قرأ: {ومن حولها من الملائكة} قال: وكذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وقوله تعالى: {وسبحان الله رب العالمين} يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى، ويحتمل أن يكون خطابًا لمحمد عليه السلام اعتراضًا بين الكلامين، والمقصد به على كلا الوجهين تنزيه الله تعالى مِمَّا عسى أن يخطر ببال في معنى النداء من الشجرة وكون قدرته وسلطانه في النار وعود من عليه، أي هو منزه في جميع هذه الحالات عن التشبيه والتكييف، قال الثعلبي: وإنما الأمر كما روي أن في التوراة جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من فاران، المعنى ظهرت أوامره بأنبيائه في هذه الجهات وفاران جبل مكة، وباقي الآية إعلام بأنه الله تعالى والضمير في {أنه} للأمر والشأن.قال الطبري: ويسميها أهل الكوفة المجهولة وأنسه بصفاته من العزة، أي لا خوف معي، والحكمة، أي لا نقص في أفعالي.{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}.أمره الله عز وجل بهذين الأمرين تدريبًا له في استعمالهما، وفي الكلام حذف تقديره فألقى العصا {فلما رآها تهتز}، وأمال {رآها} بعضُ القراء، و{الجانّ} الحيات لأنها تجن أنفسها أي تسترها، وقالت فرقة: الجان صغار الحيات وعصا موسى صارت حية ثعبانًا وهو العظيم فإنها شبهت ب {الجانّ} في سرعة الاضطراب، لأن الصغار أكثر حركة من الكبار، وعلى كل قول فإن الله خلق في العصا حياة وغير أوصافها وأعراضها فصارت حية، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد {جأن} بالهمز فلما أبصر موسى عليه السلام هل ذلك المنظر {ولى} فارًا، قال مجاهد ولم يرجع وقال قتادة: ولم يلتفت.قال القاضي أبو أحمد: وعقب الرجل إذا ولى عن أمر صرف بدنه أو وجهه إليه كأنه انصرف على عقبيه وناداه الله مؤنسًا ومقويًا على الأمر: {يا موسى لا تخف} فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوّة لا يخافون عندي، ومعي، فأخذ موسى الحية فرجعت عصا ثم صارت له عادة، واختلف الناس في الاستثناء في قوله تعالى: {إلا من ظلم}، فقال مقاتل وغيره: الاستثناء متصل وهو من الأنبياء، وروى الحسن أن الله تعالى قال لموسى: أخفتك بقتلك النفس، وقال الحسن أيضًا: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب ثم تذنب والله فتاقب فكيف بنا، وقال ابن جريج: لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه، قال كثير من العلماء: لم يعر أحد من البشر من ذنب إلا ما روي عن يحيى بن زكرياء.قال القاضي أبو محمد: وأجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل واختلف فيما عدا هذا، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك، وفي الآية على هذا التأويل حذف اقتضى الإيجاز والفصاحة ترك نصه تقديره فمن ظلم {ثم بدل}، وقال الفراء وجماعة: الاستثناء منقطع وهو إخبار عن غير الأنبياء كأنه قال: لكن من ظلم من الناس ثم تاب {فإني غفور رحيم}، وقالت فرقة: {إلا} بمعنى الواو.قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا وجه له، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم {ألا من ظلم} على الاستفتاح، وقوله: {ثم بدل حسنًا} معناه عملًا صالحًا مقترنًا بتوبة، وهذه الآية تقتضي حتم المغفرة للتائب، وأجمع الناس على ذلك في التوبة من الشرك، وأهل السنة في التائب من الماصي على أنه في المشيئة كالْمُصِرِّ، لكن يغلب الرجاء على التائب والخوف على المصر، وقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] عمت الجميع من التائب والمصر، وقالت المعتزلة.{لمن يشاء} [النساء: 48] معناه للتائبين.قال القاضي أبو محمد: وذلك مردود من لفظ الآية لأن تفصيلها بين الشرك وغيره كان يذهب فائدته إذ الشرك يغفر للتائب وما دونه كذلك على تأويلهم فما فائدة التفصيل في الآية وهذا احتجاج لازم فتأمله، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: {حَسنًا بعد سَوء} بفتح الحاء والسين وهي قراءة مجاهد وابن أبي ليلى، وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني {حسنى} مثل فعلى. اهـ.
|